إعداد الباحث عباس نمر
عضو اتحاد المؤرخين العرب
لقد كنت أَلفتُ أن أختار بين الفينة والأخرى كتاباً مما صدر أو يصدر من كتب قيمة فأعرض منه ما يروق لي وما ينفع القراء من معلومات وأفكار نيرة ، ثم توقفت عما ألفتُهُ لأتابع أموراً أخرى انشغلت بها عن مراجعة الكتب واختيار ما في بعضها مما يستحق المبادرة الى التقديم والتعليق فترة من الزمن لا تقل عن خمس سنوات .
ثم وجدتني أفاجئ بهذا الكتاب القيم حول القدس فلم ألبث أن دفعت لعرض حلقة صغيرة ومتواضعه من هذا الكتاب بعد كل تلك الفترة من الجمود لما لوقع اسم القدس من أثر بالغ على ارتياد العقول والقلوب ولما لهذا الاسم من مكانة بالغة التقدير والتقديس فهي المدينة المقدسة التي تعاقبت الدول على فتحها عنوة وسفكاً للدماء عشرات المرات ولكنها المرة الوحيدة في تاريخها التي فتحت سلماً دون إراقة قطرة دم واحدة بدخولها الاسلام على يد الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه .
كما فتحت سلماً مكة المكرمة من قبلها على يد رسول الاسلام محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام ومن قبل مكة كانت القدس قد فتحت جواً بالاسراء إليها من المسجد الحرام .
وما تعاقب الليل والنهار واختلاف الدول والأفكار عاد الظلم والظلام يخيم على هذه المدينة المقدسة التي استنقذها القائد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله من براثن الفرنجة الظالمين ( وتلك الايام نداولها بين الناس ) فرغم المدة الطويلة التي نعمت فيها القدس بالسلام والأمن إلا أن ظلام الليل قد عاد ليخيم عليها من جديد بعد خروج الدولة العثمانية مهزومة في الحرب العالمية الأولى .
ومهما يكن من أمر فلا بد من بزوغ الفجر كما بزغ مرتين من قبل عمر بن الخطاب وصلاح الدين الايوبي .
أفلا أعود بعد ذلك الانقطاع الطويل عن عرض كتب القدس خصوصاً في الفترة العثمانية لأن المكتبة الفلسطينية والعربية والإسلامية فقيرة بالكتب والدراسات العلمية الاكاديمية الموثقة ، على الرغم من وجود الكثير من الوثائق والمخطوطات العثمانية في جميع مراكز الابحاث الفلسطينية والعربية والعالمية .
وها أنا ذا اليوم أراني أتخذ من كتاب : ( القدس العثمانية 1700م – 1757م دراسة في التطورات الادارية ) للمؤرخ القدير الدكتور عبد القادر سطيح مثالاً يحتذى به وقدوة تحاكي في الحرص على كتابة التاريخ عن مدينة القدس من خلال الوثائق خصوصاً سجلات محكمة القدس الشرعية وسجلات محكمة نابلس الشرعية ومن الاراشيف العثمانية أرشيف دفاتر المالية وأرشيف متحف الباب العالي وأرشيف الشكايات العتيقة … إلخ .
لقد كابد مؤرخنا سطيح السهر والصبر دون كلل أو ملل في قراءة المخطوطات والوثائق العربية والعثمانية وما ذلك بعصي على مؤرخ قدير في مجاله وهو يجيد اللغة التركية والعثمانية والانجليزية بالإضافة إلى لغته العربية ، وله العديد من المؤلفات والأبحاث المنشورة باللغات العربية والتركية والانجليزية تدور حول القدس في الفترة العثمانية واليوم الدكتور سطيح هو مدير المركز الثقافي التركي ـ يونس إمرة ـ فرع رام الله ومحاضر للغة التركية في جامعة بيرزيت .
هذا وقد زين الغلاف بصورة قديمة للقدس مأخوذة من قرية الطور وكأنها لوحة فنية ، أما الغلاف الأخير في القسم العلوي كلمة للمؤرخ التركي البرفسور زكريا قورشون والقسم السفلي من الغلاف السيرة الذاتية للدكتور عبد القادر سطيح .
ومن كلمة المؤرخ التركي قورشون جاء : ( القدس هي المدينة المقدسة على وجه الارض وهي التي حافظت على جمالها وآثارها قروناً ، وفيها تقاطعت كل الأديان السماوية وكانت قبلة المسلمين الأولى ، وليس هناك مكان آخر في التاريخ حصل على هذه الأهمية كهذه البقعة الجغرافية الصغيرة ، التي تنافست عليها جميع القوى العظمى وعملت ما في وسعها للحفاظ عليها في أيديها ، لهذا كانت هذه الأرض تنعم بالسلام والاستقرار أحياناً ، وفي بعض الأحيان كانت مسرحاً للصراع ، وقد انعكست هذه الميزة في الكتابة عن تاريخ هذه المدينة ، وبقي السلام والهدوء الذي استمر في هذه المدينة لمدة (400) عام خلال الفترة العثمانية .
وإن الأعمال المنجزة عن القدس أبعد ما تكون عن أخبار عن المدينة فما الذي نعرفه عن تاريخ القدس العثمانية أو بالأحرى هل ما نعرفه صحيح ؟
للإجابة على هذا السؤال كتاب ( القدس العثمانية 1700م ـ 1757م دراسة في التطورات الادارية ) للدكتور عبد القادر سطيح الذي أنبرى البحث في الوثائق العثمانية ليرسم لنا صورة جميلة عن القدس ويوثق لنا كيف انعكست الأحداث ، وبين لنا كيف تم إحتواء القوى المحلية ويصف لنا أحوال القدس في تلك الفترة ).
الكتاب
لقد جاء الكتاب بعد المقدمة بالمدخل والموقع الجغرافي والتوزيع السكاني والادارة العثمانية في القدس الذي ضم ثلاثة فصول والخاتمة والمصادر الارشيفية من دفاتر ووثائق ومصادر تاريخية ثم الرحلات والدراسات والبحوث العربية والاجنبية وأيضاً الرسائل العلمية غير المطبوعة ومعاني المصطلحات العثمانية إلى العربية ثم دليل الاسماء والأماكن والمصطلحات ودليل الطوائف والملاحق مع الخرائط وذلك كله في (169) صفحة من القطع المتوسط .
فصول الكتاب
هذا الكتاب من عام 1700م ـ 1757م إذ تعتبر هذه السنوات السبع والخمسون فترة مميزة من تاريخ المدينة المقدسة القدس الشريف لهذا تم إلقاء الضوء على ما جرى فيها من أحداث ويتألف الكتاب من مدخل وثلاثة فصول وخاتمة .
تناول الفصل الأول من الكتاب المراجعات التي قامت بها الدولة العثمانية في إدارة محافظة القدس التي كانت في مجملها تصب في صالح بحث الدولة عن حل للمشاكل الكثيرة التي تعرضت لها قافلة الحج الشامي آواخر القرن السابع عشر .
ابرز هذه المراجعات كانت انتباه الدولة الى الموقع الاستراتيجي الذي تتمتع به القدس حيث اتخذت قراراً بجعلها مركزاً للعساكر التي تخرج لملاقاة قافلة الحج وحمايتها في طريق العودة وكانت هذه العساكر تسمى قافلة الجردة ، ضمن هذا السياق قامت الدولة العثمانية بترحيل معظم القوات العسكرية المحلية إلى دمشق وكلفت ما يقارب من 400 إلى 1000 عسكري من القوات السلطانية الخاصة للإقامة في القدس للمشاركة في حماية قافلة الحج واستخدمت الدولة هؤلاء العساكر من أجل ايجاد حلول عسكرية للمشاكل التي حدثت في غزة ودمشق وفي قتال ظاهر العمر وفي المشاركة في حرب الدولة مع الصفويين في ايران وقد انخفضت اعداد هذه القوات شيئاً فشيئاً وحين وصلنا عام 1757م لم يعد لهذه القوات قيمة عسكرية كبيرة ، اعتراض الاهالي على وجود هذه القوات تسبب في حدوث خمس موجات من العنف خلال الفترة داخل المدينة كان اهمها ما عرف بثورة نقيب الاشراف .
في هذا المجال ايضاً أرسلت الدولة خلال الربع الأول من القرن الثامن عشر (23) محافظاً من أصحاب الكفاءات والرتب العالية وكلفت العديد منهم بمناصب قيادة في قافلة الجردة والمهم في هذا الباب أن الدولة كانت تمد سلطتهم في أغلب الأحيان على نابلس وغزة واللجون وعجلون وقد تم مكافأة من نجح منهم في القيام بالمهمات التي طلبت منه بتعيينهم ولاة على دمشق أو مصر أو حلب وغيرها لكن الدولة بعد العام 1725م قررت إعفاء محافظي القدس من القيام بمهمة قيادة الجردة بسبب ارتفاع العبء العسكري والمالي المطلوب لها والذي لم تتمكن المحافظات الفلسطينية من القيام به فتم تكليف ولاة طرابلس وصيدا بذلك وتم الحاق جميع محافظات فلسطين إلى الحكم المباشر لوالي الشام وأصبح حكام القدس متسلمين محليين واستمر ذلك حتى العام 1757م حين عادت الدولة العثمانية إلى تعيين محافظيين للقدس .
وتضمن الفصل الثاني من الكتاب اثر قرارات الدولة على العائلات المقدسية حيث تراجع دور بعض هذه العائلات مثل الوفائي والعسلي والنمري بسبب معارضتها لاقامة القوات العسكرية السلطانية الخاصة في القدس وهو السبب في عدم وصول واحدة من هذه العائلات إلى منصب المتسلم بينما ارتفع شأن عائلات أخرى مثل عائلة قاسم وعقيل التي تماشت مع إجراءات الدولة الجديدة فأتاحت لها الدولة الوصول إلى منصب المتسلم .
أما الفصل الثالث فيتناول الأثر الذي تركته إجراءات الدولة على غير المسلمين في القدس حيث قررت الدولة بعد دخولها للساحة الدبلوماسية تحويل معظم الأماكن المسيحية المقدسة إلى اشراف طائفة اللاتين القريبة من فرنسا مما أثر على رعايا الدولة ما طائفتي الروم والأرمن التي أخذت تبحث عن حليف خارجي لها وأستغلت روسيا الفرصة للتعاون مع هذه الطوائف وحين تنبهت الدولة في العام 1757م إلى هذا الأمر أعادت الامور إلى ما كانت عليه قبل بداية القرن الثامن عشر ويفسر البعض هذا الاجراء بأنه جاء بناء على رغبة الصدر الأعظم راغب باشا الذي كان في السابق محافظاً للقدس ويعرف تفاصيل كثيرة عنها .وأما خاتمة الكتاب أرتأيت أن أضع شيئاً منها للأهمية .
سنجق القدس يحول إلى متسلميه
أقرت الدولة تحويل سنجق القدس إلى متسلميه في بداية الربع الثاني من القرن الثامن عشر وذلك استجابة لسياستها العامة في مختلف الأقاليم بتحويل المتصرفيات إلى متسلميات وتوسيع صلاحيات الولاة وبهذا وضعت حداً للتقليد في حكم السنجق الذي استمر منذ دخول القدس تحت الحكم العثماني ، ومنذ ذلك التاريخ أصبح سنجق القدس يدور في فلك والي الشام ، وفقد الاستقلال النسبي الذي كان يتمتع به من قبل ، لكن الأمر الجدير بالملاحظة هو أن الدولة بدأت بالاعتماد على حاصلات ميناء يافا في دفع رواتب القدس لما شهده الميناء من إعمار ونشاط وعملت بذلك على إنهاء التبعية المالية للعاملين في سنجق القدس على والي الشام .
ترتب على قرار الدولة منح سنجق القدس إلى ولاة الشام أنه لم يكن بإمكان الولاة إدارة السنجق بأنفسهم لهذا كان عليهم تعيين متسلمين فيه ، وفتح هذا المجال أمام القوى المحلية للوصول إلى منصب المتسلم في السنجق وتزامن ذلك مع صدور فرمان من السلطان يسمح للقوى المحلية بالوصول إلى المناصب الإدارية العليا في الولايات والسناجق ، وهو ما استفاد منه آل العظم في حكم ولاية الشام ومكي زادة في سنجق غزة ، وعائلتا طوقان والنمر في سنجق نابلس ، وتبين من أسماء المتسلمين أن القوى المحلية في سنجق القدس لم تستطع الاستفادة من هذا القرار ، نتيجة عدم استقرار مكانة الأعيان في المدينة ، واستعان ولاة الشام بمتسلمين من العائلات الشامية ، أو عائلات من سنجقي نابلس وغزة في إدارته ، ومع أن الدولة تراجعت عن قرارها هذا في العام 1756م ، ورفعت الاشراف المباشر لوالي دمشق عن سنجق القدس وإعادته إلى متصرفية من جديد ، تشمل سناجق غزة ونابلس ، لكن ذلك لم يستمر فترة طويلة فإعادت القدس إلى وضع المتسلمية منذ العام 1757م حتى الربع الثالث من القرن التاسع عشر .
عمدت الدولة لإنجاح مراجعاتها الإدارية داخل السنجق إلى بذل مساعي حثيثة ، ومحاولات عديدة لاحتواء القوى المحلية ، وعدم السماح لها بالخروج عما تسمح به وفرض الاستقرار بين طوائف أهل الذمة والمحافظة على التوازن .
إحتواء القوى المحلية
أستخدمت الدولة طرقاً عديدة لاحتواء القوى المحلية المختلفة من أعيان المدينة وأغوات العساكر وشيوخ القبائل البدوية ، فأنعمت على من تناغم مع إجراءاتها الجديدة بالألقاب والأموال ، وأسندت إليه العديد من الوظائف، ولجأت أحياناً في حال فشل إجراءات الاستيعاب الايجابية إلى أستخدام أساليب القهر والقوة بعزلهم عن وظائفهم ، أو حبسهم أو نفيهم أو ايقاع عقوبة الاعدام عليهم وهدم بيوتهم ، وحرصت على إيجاد توازن داخلي بين هذه القوى ، لا يسمح لأي منها بتجاوز الحدود التي ترسمها الدولة ، واعتمدت على البدائل الجاهزة لتقديم خدماتها في خدمة الدولة ، واستفادت العائلات المقدسية العاملة في التجارة من الصفقات التجارية ، التي يعقدها متصرف المدينة لصالح الجردة ، كما استفادت بعض القبائل البدوية من إبرام صفقات نقل المواد التموينية إلى قلاع الحج ، وكان لهذه الإجراءات دور بارز في تراجع ادوار عائلات وقبائل في الوصول إلى مناصب هامة في السنجق ، أو حرمانها منها وبروز عائلات جديدة مما ترك أثره في تاريخ القدس الحديث .
التوازن بين الطوائف
بذلت الدولة جهوداً كبيرة للمحافظة على التوازن بين الطوائف في السنجق ، ومرت جميع سنوات الحج المسيحي دون حوادث تذكر ، لكن زيادة مشاركة الدولة في الدبلوماسية الدولية ، دفعها إلى العمل على الاستفادة من وجود الأماكن المسيحية المقدسة في سنجق القدس في مناوراتها الدبلوماسية ومع أنها حققت بعض النجاحات في هذا الصعيد لكنها لجأت ضمن هذه المناورات إلى منح طائفة اللاتين ـ المدعومة من الدول الأوروبية وخاصة فرنسا ـ حقوقاً كثيرة في الأماكن المقدسة ، فأخلت بالتوازن القائم منذ القدم بين الطوائف المسيحية ، الأمر الذي زاد من تعقيد الخلافات بين هذه الطوائف ، وانتقالها إلى الساحة الدولية واشتعال حروب بين الدولة والدول الأجنبية في السنوات اللاحقة لفترة الدراسة ، تحت هذه الذريعة ، وتنبهت الدولة متأخرة إلى الأضرار التي ترتبت على هذا القرار ، فقررت إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل معاهدة كارلوفتش ، وأعادت هذه الأماكن المسيحية المقدسة إلى رعايا السلطان من طائفتي الروم والأرمن في عام 1757م ، لكن طائفة اللاتين الكاثوليك كانت قد نجحت في شق صفوف هذه الطوائف وظهر فيما بينها جماعات تنتمي إلى الكاثوليكية وبدأت الدول الأوروبية وخاصة فرنسا في وضع أبناء هذه الطوائف المسيحية تحت حمايتها .
تناسبت إجراءات الدولة في مراجعاتها لأساليب إدارة السنجق مع الظروف التي كانت تمليها الأحداث ، ولم تكن هذه المراجعات جذرية ، واستطاعت الدولة بهذه الاجراءات المحافظة على هيبتها لكنها لم تستطع النهوض بإدارة السنجق .
وأخيراً
وأخيراً فإنني وبعد اطلاعي على تفاصيل هذا الكتاب الممتع للمؤرخ القدير الدكتور عبد القادر سطيح أقول إنها دراسة رائدة وعميقة ، قد بذل في سبيلها المؤلف جهد كبير خالصاً للقدس .
ونرجو أن يكون هذا العمل الطيب القيم والمميز في نهجه باعثاً للآخرين من أهل العلم والباحثين الفلسطينيين لأن يتداعوا إلى الكتابة حول المدن والقرى الفلسطينية في الفترة العثمانية لتعم الفائدة ، ويتم النفع للأجيال القادمة بإذن الله بما تجنى منها من عبر وعظات .