بسم الله الرحمن الرحيم
من المواسم الشهيرة في فلسطين قبل النكبة 1948م
موسم النبي روبين
إعداد الباحث عباس نمر
عضو اتحاد المؤرخين العرب
من المواسم الشهيرة في فلسطين قبل النكبة 1948م
موسم النبي روبين
إعداد الباحث عباس نمر
عضو اتحاد المؤرخين العرب
الحلقة الأخيرة
لكل أمة أعيادها ومناسباتها ولكل شعب من الشعوب مواسمه وتقاليده التي يفتخر بها ويحافظ عليها ، وأما نحن في الفلسطينيون فإن لنا مناسبات أكثر من أن تحصى ، لموقع بلادنا الاستراتيجي الهام ، ولتزاحم الدول والجيوش على اتخاذ موطئ قدم لها في فلسطين التي تربط آسيا بأفريقيا وتتصل بأوروبا عن طريق موانئها المقامة على ساحل البحر الأبيض المتوسط تلك كانت مستعملة بكثافة في السلم والحرب .
وليست المناسبة التي كان يحيها أهل فلسطين قبل نكبة عام 1948م هي موسم النبي روبين فقط بل كان هناك العديد من المواسم التي تنسب كل منها إلى نبي أو خليفة أو صحابي أو قديس لأن أرض فلسطين هي أرض الأنبياء والأولياء والصالحين عاش ومات فيها عدد لا يضاهيها في كثرته أي بلد آخر إنها الأرض المباركة فلا عجب إن انتشرت فيها المقامات والمزارات والمشاهد في طول الأرض وعرضها في المدن والقرى والحقول ورؤوس الجبال حتى في أطراف الصحراء لتعود بنا الذاكرة الى سيرة الرجولة الحقة للقائد صلاح الدين الأيوبي بطل حطين وهازم الفرنجة المعتدين ومثبت منبر نور الدين في قبلة المسجد الأقصى المبارك بعد طرد الأعداء الماكرين من رحابه الشريفة إن هذا القائد الذي أنشأ هذه المواسم الشريفة وبعده المماليك واستمر من بعدهم العثمانيين وعندما جاء الانتداب البريطاني أوقفها في عدد من السنوات وبعد عام النكبة توقفت وبقي في الضفة موسم النبي موسى لكن ذهبت هيبة وهمة وبركة هذه المواسم .
هذا ولقد تحدثنا في الحلقة الأولى عن قرية النبي روبين قضاء الرملة التي على أرضها يقام موسم النبي روبين واليوم نتحدث عن الموسم .
من أسماء المواسم
في فلسطين
1ـ موسم النبي روبين ، في قرية النبي روبين قضاء الرملة وجنوب مدينة يافا والذي نحن بصدده في هذه الحلقة .
2ـ موسم النبي موسى عليه السلام بالقرب من مدينة أريحا وأكثر المهتمين أهالي مدينة القدس والبيرة ونابلس وبيت لحم والخليل وقراهما وهناك حضور من مدن يافا واللد والرملة وغزة .
3ـ موسم النبي صالح في مدينة الرملة وأكثر المهتمين مدن الرملة واللد والقرى المجاورة .
4ـ موسم النبي صالح في قرية النبي صالح في محافظة رام الله والبيرة وأقيم مع قدوم السلطة عام 1996م الى عام 2000م وتوقف بسبب إجراءات الاحتلال من إقامة حواجز حول قرية النبي صالح .
5ـ موسم المنطار في غزة هاشم .
6ـ موسم مشهد الحسين عليه السلام في قرية الجورة بالقرب من المجدل .
7ـ موسم ابي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه وأكثر المهتمين عرب المساعيد والمشالخة ومن حولهم .
8ـ موسم علي بن عليم وهو شمال مدينة يافا .
9ـ موسم ابي العيون في منطقة طولكرم وأكثر المهتمين مناطق بني صعب والشعراوية في المنطقة .
10ـ موسم النبي شعيب بالقرب من قرية حطين قضاء طبريا ويحتفل به الدروز هذه الأيام .
11ـ موسم النبي كفل ( ذي الكفل ) في قرية دير طريف قضاء الرملة .
12ـ موسم النبي خضر في مدينة حيفا .
13ـ موسم ابراهيم الخواص في دير غسانه في محافظة رام الله والبيرة .
14ـ موسم الخضر في نابلس وهو في أيام عاشوراء .
نكتفي بهذا القدر من اسماء المواسم والمزارات .
موقع النبي روبين
يقع مقام النبي روبين في قرية النبي روبين غرب مدينة الرملة وجنوب مدينة يافا ويبعد عن الأولى والثانية (14) كيلومتراً وهو على الشاطئ الجنوبي لنهر روبين وعلى بعد ثلاثة كيلومترات من ساحل البحر الأبيض المتوسط .
من تاريخ المقام
جاء في موسوعة بلادنا فلسطين للمرحوم مصطفى مراد الدباغ : (ان المقام المعروف باسم (النبي روبين) لا صلة له باليهودي (روبين ابن النبي يعقوب عليه السلام ، ولد روبين هذا شمال سوريا ، وبعد أن أقام مع والده واخوته في جبال نابلس وجوارها مدة نزحوا جميعاً الى مصر في نحو 1656م قبل الميلاد وتوفي فيها .
والذي نرجحه أن معبداً للكنعانيين ولغيرهم من الوثنيين كان يقوم على المقام المذكور ، وبقي السكان يحملون لهذه البقعة التقديس والاحترام ، بعد ان استبدلوا ديانتهم إلا أنهم حولوا ذلك التقدير بما يناسب معتقداتهم الدينية الحديثة ).
وبعد الانتصار الأيوبي في القدس وحطين جاء القائد صلاح الدين الأيوبي وهو من أظهر المواسم الدينية في فلسطين موزعاً إياها توزيعاً جغرافياً ، فجعل لكل مدينة أو أكثر موسماً خاصاً بهم يجمع المدينة والقرى التي تجاورها على احتفالات وزيارات للأماكن المقدسة وموسم النبي روبين كان يخص ثلاث مدن رئيسية وهي الرملة ويافا واللد وقراهما .
من كَتب عن الموسم
إن الذين كَتبوا عن موسم النبي روبين كُثر لكن الدكتور محمود يزبك كبير المحاضرين في دائرة تاريخ الشرق الأوسط ـ جامعة حيفا ، كان له دراسة قيمة ونفيسة تحت اسم : ( النبي روبين في يافا ـ من موسم ديني إلى مصيف) ، ونشرت هذه الدراسة في مجلة الدراسات الفلسطينية /طبعة فلسطين والمجلة فصلية وكان المقال في عدد (97) شتاء 2014م صفحة 66-99 ، وكذلك المؤرخ الاستاذ على حسن البواب الذي كتب دراسة هامة وقيمة عن موسم النبي روبين كانت ضمن (موسوعة يافا الجميلة) في الجزء الثاني من الموسوعة وكانت تحت اسم موسم النبي روبين من صفحة 1353-1370 وهذه الدراسة ارتأيت أن أقتبس منها عن وصف الموسم لأهميتها .
الإعلان عن بدء الموسم
في العهد العثماني وفترة الانتداب البريطاني كانت الأوقاف في القدس الشريف هي من تعطي الإذن ببدء الاحتفالات بالموسم والمواسم الأخرى مثل موسم النبي موسى والنبي صالح .... إلخ .
وكان الإذن يبعث إلى دائرة الأوقاف في الرملة وبعد خروج ابراهيم باشا من بلاد الشام عام 1841م أصبح الإذن يرسل إلى مدير أوقاف يافا لأنها أصبحت مدينة كبيرة ولها أهميتها وغالباً يبدأ العمل لموسم النبي روبين في شهر حزيران من كل عام وكان الموسم يبدأ عند ظهور أول هلال في شهر آب ويستمر شهراً كاملاً أو أكثر ويكون التعريف بالموسم فقط في فترة الانتداب البريطاني .
الاحتفالات التمهيدية
تبدأ الاحتفالات التمهيدية في مدينة اللد ويكون ذلك يوم الاثنين ، وفي مدينة الرملة ويكون ذلك يوم الثلاثاء ، ثم مدينة يافا ويكون ذلك يوم الأربعاء عل التوالي ، ويكون بدئها بموكب يسمى (زفة الثوب) وهو علم سيدنا روبين ويسمونه (البيرق) وهو عبارة عن قطعة مستطيلة من القماش الأبيض كتب عليها عبارة (لا اله إلا الله ، روبين حبيب الله) ويتم الاحتفاظ بهذا العلم طيلة السنة في مقر لجنة البحارة تأكيداً لما كان لرياس البحر من قوة وسطوة ونفوذ .
بداية الموكب
يبدأ الموكب من جامع يافا الكبير ، ويطوفون بشوارع البلدة القديمة مروراً بموقع قلعة يافا ومن ثم الى ساحة الساعة وبعدها الاسواق التجارية ويعودون به ليودع لدى دائرة الأوقاف الإسلامية وهي راعية احتفالات الموسم ويترك هناك بانتظار يوم الجمعة التالية ويسير في الزفة كبار رياس البحر والبحارة والتجار ورجال الدين وأعلام المدينة ، ويجري التأكيد في ذلك اليوم وهو الأربعاء واليوم الذي يليه وهو الخميس على جميع السكان بأن يوم الجمعة القادم سيكوون موعد (زفة الثوب) من دائرة الأوقاف إلى موقع النبي روبين .
وكانت الزفة التي تتم بيافا يوم الأربعاء فرصة للتعبير عن المشاعر الوطنية ويتناوب حمل الثوب أثناء الزفة مجموعة من شباب يافا ، وفي أثناء المسيرة كانوا يهتفون بالأبيات الحماسية من الشوباش والواو .
التوجه الى النبي روبين
وفي يوم الجمعة الموعود وهو اليوم الذي يتوقع أن يكون القمر فيه بدراً أو أقرب ما يكون إلى ذلك ، ويتوجه الجميع إلى روبين على الجمال والخيل والبغال المزينة ، ويلتقون هناك ما بين الساعة 9-10 صباحاً في المخاضة في أول تلة روبين ، حاملين الثوب ( علم روبين ) والأعلام الفلسطينية ، وأعلام المدن الثلاث يافا والرملة واللد ، يصاحبهم اصحاب الطرق الصوفية ، وضاربو السيف والترس وموسيقات الفرق الدينية وموسيقات الكشافة والأندية ، ويسيرون في موكب حافل إلى المسجد المجاور للمقام ، وتغرز الأعلام جميعها في الرمال على مقربة من المقام ويؤدي الجميع صلاة الجمعة جماعة ، وبعد أداء الصلاة تدعو إدارة الأوقاف الإسلامية كافة الحضور لتناول طعام الغداء على نفقتها بالتعاون مع جمعية البحارة ويستمر عمل ( مطبخ الأوقاف ) عشرون يوماً .
وتجد الاشارة إلى أن علم روبين يعاد إلى جمعية البحارة ، ويظل هناك إلى الموسم الذي يليه وهو غير علم ( سنجق يافا ) الذي كان يحتفظ به ( الشيخ علي الدلال ) في داره ، والذي كان يشارك في احتفالات زفة الثوب في يافا وروبين وكذلك في احتفالات موسم النبي صالح في الرملة والنبي موسى في القدس .
وكانت الأسر تتوجه إلى روبين من مدن يافا واللد والرملة على ظهور الجمال لأن أرض المصيف الرملية مناسبة لها ، لهذا كان أصحاب الجمال والدواب يزينونها بالألوان والودع والأجراس والشناشيل والمرايا استعداداً لهذا الموسم ، ويتذكر كبار السن ( مواكب الجمال المزينة ) التي كان يسيرها ( الحاج علي أبو الزلف ) داخل مدينة يافا قبيل بدء الموسم ، قاصداً من وراء ذلك تذكير الناس بقرب ابتدائه والإعلان عن بضاعته بشكل ذكي ولإثارة البهجة في نفوس الناس .
وكان يزيد من جمال منظر هذه القوافل الهوادج التي كانت تقام على بعض الجمال لتحمل في العادة النساء والصبايا ، والتي كانت تزين بشكل خاص يشبه هوادج العرائس ، وليس هناك أدل مقدار تعلق الأهالي بهذا الموسم وإصرارهم على المشاركة فيه وخاصة النساء منهم ، ومن ذلك القول الشعبي المنسوب إلى المرأة وهو قولها لزوجها الذي يرفض الذهاب إلى المصيف بطريقة لا تعطيه خياراً آخر : ( يا بتروبني ... يا بطلقني ) .
بداية ظهور وسائط النقل
مع أن وسائط النقل كانت قد انتشرت في الثلاثينات من هذا القرن ، إلا أن الناس كانت تفضل السفر على الجمال لما في ذلك متعة وسلوى ، وبعد ذلك وفي أواخر الثلاثينات والأربعينات سيرت ( شركة باصات بامية ) خطاً مباشراً من يافا إلى روبين بأجرة مقدارها 50 ملاً للشخص الواحد .
وفي طريقهم إلى المصيف على ظهور الجمال كانت الناس تغني أغنية معروفة تقول كلماتها :
أول فتح الباب آه يا رب يا تواب
أول مـا بـديـنـا ع المصطفى صلينا
والأهازيج التي كانوا يتغنون بها في الطريق كثيرة لا مجال لذكرها .
ولتلافي الزحام ولاختيار المكان المناسب بجوار الأهل والأصدقاء ، كانت العوائل تنصب صواوينها وخيامها قبل بدء الموسم بأسبوع لاستمتاع بمشاهدة الزفة في داخل المصيف ، ويختلف مكان إقامة الأسرة باختلاف حالتها المادية ووضعها الاجتماعي ، فهناك الصواوين الكبيرة ، وهناك خيام القماش ، وخيام الحصر والخيش .
ويتوالى تدفق الناس على المصيف من بداية الموسم وقد يشارك في ها إضافة إلى يافا وقراها واللد والرملة ، كل من غزة والمجدل وقراهما ليصبح تعداد المقيمين في ذروة الموسم في شهر (8) أغسطس حوالي خمسين ألف مصطاف.
ويشارك في الموسم معظم السكان من مختلف الأوساط الاجتماعية مسلمين ونصارى ، فقراء وأغنياء ، وهو مناسبة لتغيير الجو و الترفيه عن النفس ، وفرصة للابتعاد عن المدينة في موسم الحر والرطوبة ، وهو إجازة سنوية جماعية للسكان ، يروحون بها عن أنفسهم ويكسرون روتين حياتهم ، ويستدعي ذلك انتقال كافة الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والفنية إلى المصيف ، ولا يظل بيافا إلا من كان مضطراً إلى ذلك ، ويعتبر بذلك ( أكبر موسم شعبي ) في فلسطين كلها .
وفي الصباح الباكر يذهب موظفو الحكومة ورياس البحر والبحرية وموظفو البنوك إلى يافا لإنهاء أعمالهم فيها ، ويعودون في عصر نفس اليوم للتمتع بالأمسيات الجميلة والهواء العليل ، وليمضوا الليل بجوار أسرهم ويكررون ذلك كل يوم والملفت للنظر هنا هو قدر هؤلاء الناس على نقل مدينة بكاملها تقريباً بأهلها وأسواقها أضف إلى ذلك التجمعات المجاورة لها إلى موقع آخر مع استمرار الحياة في الموقعين بدون أرباك أو تعطيل .
بالإضافة إلى انتقال معظم السكان إلى مصيف روبين كان معظم التجار ينقلون نشاطهم إلى روبين فتنتقل المقاهي ومحلات الحلو والبقالين والقصابين والمطاعم ومحلات بيع الثلج ومحلات البن والبهارات والمكسرات والأفران ومحلات الخردوات التي تبيع الأساور والخواتم الزجاجية والعظمية الملونة ، والتي يعد شراءها دليلاً على الذهاب إلى المصيف ولا تكاد تطلب شيئاً ولا تجده ، حتى مراجيح الأطفال والكبار كانوا ينصبونها هناك .
وكانت بلدية يافا بالتعاون مع دائرة الأوقاف ولجنة البحارة والصحة والبوليس يخططون الموقع ويتولون تحديد أمكنة الأسواق وأماكن السكن والخدمات الصحية والمراحيض العمومية ، وأماكن إقامة كل تجمع من السكان فَيُقَسَمُ الموقع إلى مربعات ، يسمى كل منها (بلوك) ويتم تحديد مواقع الشوارع الفاصلة بين البلوكات بطريقة تسهل الوصول إلى كافة الأمكنة
وكانت إدارة المصيف تقسم أماكن السكن بحيث يسكن أهالي سكنتي درويش وأبو كبير في أماكن مستقلة ، وأهالي يافا في موقع آخر وهو أكبر التجمعات ، ثم أهالي اللد والرملة والمجدل وغزة والقدس ونابلس كل في موقعه والأماكن المخصصة لسكان القرى المجاورة ، فلا يكون هناك مجال للاحتكاك أو عدم الإنسجام.
كما كانت إدارة الأوقاف تؤمن المياه العذبة اللازمة للشرب والغسيل وقد كان الموسم فرصة عمل جيدة للساقيين ( السقايه ) الذين يحضرون الماء في تنكات توضع على ظهور الدواب من موقع عين مليحه في المخاضة إلى الأسواق وخيم السكان لقاء أجر زهيد .
ويتم توزيع أصحاب المهن في صفوف ليسهل الاستدلال عليها ، فالمقاهي في صف واحد وخلفه الحلونجية وخلفهم المخابز وهكذا إلى آخر السوق ، وكانت هناك سوقاً مخصصة للنساء تبدأ من الساعة (6) مساء تمارس النساء وحدهن البيع فيها ويقف رجال الشرطة في مدخل السوق ومخرجه لمنع دخول الطفيليين .
ومن تقاليد أصحاب المقاهي في مصيف روبين انهم كانوا يرفعون أعلاماً بيضاء فوق مداخل محلاتهم للدلالة على أن صاحب المقهى استرد مصاريف إقامة مقهاه في المصيف وبدأ يحقق الربح .
وللمصيف لباسه المميز يرتدي جميع الذكور من الصبيان والشبان الأثواب البيضاء الفضفاضة (الدشداشة) ويرتدي الرجال وكبار السن (قنابيز الروزا) وتحتها السراويل البيضاء ، وينتعلون المداسات الجلدية الخفيفة التي تساعد في السير على الرمال الناعمة ، ويعتبر أمراً غير مألوف ارتداء الملابس الإفرنجية في المصيف ، أما النساء فكن يرتدين ملابسهن العادية المكونة من الملاية السوداء وغطاء الرأس والوجه .
وفي النهار يذهب الصبية للسباحة في نهر روبين عند المخاضة وبجوارهم تجلس أمهاتهم تحت أشجار الكينيا في الهواء ينتظرن عودة أزواجهن من أعمالهم في يافا ، وبعد العصر وعندما يبرد الجو تقام سباقات الخيول التي يشترك فيها العديد من المدن وينتشر المصطافون على جانبي مضمار السباق لمشاهدة الخيول الأصيلة المزينة بأجمل زينة .
ولعل أجمل ما في روبين هو لياليه الهادئة وهوائه العليل ، ومئات الفوانيس والقناديل التي تضيئ عتمة المكان ، وأصوات أم كلثوم وعبد الوهاب تنطلق من أجهزة الراديو المنتشرة في المصيف سواء في المقاهي أو الخيام وكان السكان يستعملون مولدات الكهرباء التي تعمل بالديزل لإضاءة الأنوار ، وكانت إدارة الأوقاف تؤمن المولدات اللازمة لإنارة مرافق المصيف والأماكن الرئيسة فيه .
وإذا اختار الرجال عدم الذهاب إلى المقاهي تجمعوا في حلقات جلوساً على الرمل الناعم النقي الذي يشبه حبات السكر ، ويدخنون أراكيل التنباك ويتسامرون ويغنون ، أو يستمعون إل غناء أحدهم ، أو يصغون إلى الأغنيات المذاعة في الراديو والتي تسمع بوضوح في كافة أرجاء المصيف .
أما النساء فكن يجلسن في أبواب السراقدات والخيام في أوضاع متقابلة مع جيرانهم وأقربائهن يتسامرن ويتجاذبن أطراف الحديث في حين يلهو الأطفال بلعب الغماية والزقوطة .
أما الرجال الذين يتوجهون إلى المقاهي فإنهم يتسلون بلعب طاولة الزهر والدومينو أو بالإستماع إلى الراديو أو بمشاهدة جولات التبان التي كانت تقام في مربعات رملية في زويا المقاهي وتتم عادة بين أبطال معروفين ومتحديهم من الهواة والمبتدئين .
وكان موسم روبين مناسبة جيدة للكثيرين ليقيموا أعراسهم هناك حيث تسير الزفات في طرقات المصيف وتقام الجلوة للعروس في أحد السرادقات ويستمر الغناء والرقص حتى الصباح .
كما كان روبين مناسبة جيدة للوفاء بالنذور وإقامة الحفلات والموالد الدينية ودعوة أصحاب العدة لتلاوة الأذكار والتواشيح والأدعية كما كان مناسبة جيدة لإقامة حفلات طهور الصبيان مع ما يرافق ذلك من مراسم واحتفالات وكانت الزفات التي ترافق الاحتفال بالطهور قديمة العهد في مواسم سيدنا روبين .
كما تميز مصيف روبين بانتشار دور عرض السينما الصيفية التي تشد العديد من الناس والتي كانت تعرض روائع أفلام ذلك الزمان وأهمها أفلام ليلى مراد وأنور وجدي وعبد الوهاب ، وقد حضر إلى مصيف روبين ولسنوات عديدة الكثير من الفرق المسرحية المصرية كما حضر العديد من مشاهير المطربين والمطربات وقدموا عروضهم في السرادقات التي أقيمت خصيصاً لهم .ويصادف موسم روبين من كل سنة موسم صيد طير الفر اللذيذ الطعم والذي يتم صيده عن طريق نصب شباك في وضع أفقي في موقع المخاضة عندما يحضر مهاجراً من جزيرة قبرص إلى سواحل فلسطين وعند وصوله متعباً يطير بعلو منخفض ويقترب ليشرب من عين المليحة ولكنه يصطدم بالشباك ويعلق فيها فيتم جمعه وذبحه ، وقد انتشرت العديد من المطاعم في المرطبات وبسطات الترمس والذرة المشوية والمكسرات.
ومن مظاهر الاحتفال بالمصيف حضور فرق الكشافة من أنحاء متعددة من البلاد وخاصة من مدن يافا واللد والرملة لتقدم عروضها وتعزف ألحانها في شوارع المصيف قبيل مغرب كل يوم بعد أن يصحو الناس من قيلولتهم ويرتاحون من عناء عملهم ويبرد الجو بشكل يتيح للجميع متابعة هذه العروض الجميلة .
ومن المناظر المألوفة في المصيف مشاهدة الرجال والنساء وهم يتجولون خلال ساعات النهار وهم يحملون شماسي بيضاء اللون لحمايتهم من أشعة الشمس كما كان أصحاب المحلات والبسطات يستعملونها بكثرة اتقاء لحرارة الشمس ومن المناظر المألوفة قيام البعض بتنخيل الرمل للبحث عن مصاغ مفقود من النساء أو للبحث عن قطع نقدية ضائعة .
ومن المناظر المألوفة قيام بعض الشبان بعمل حفر في الأرض بعمق نصف متر تسمى هبيطه تتم تغطيتها بأوراق الجرائد وغصون الأشجار وتمويهها بشكل جيد ليسقط فيها أول عابر سبيل كوسيلة للمزاح والدعابة واختبار قوة التحمل.
ويستمر الناس في الاستمتاع بهواء المصيف العليل طيلة أشهر الصيف الثلاثة حتى يهطل أول مطر في شهر أيلول عندها تبدأ الناسب فك صواوينها وخيامها ومحلاتها مبتدئين رحلة العودة إلى يافا ليعود كافة المصطافين إلى مدنهم وقراهم والاستعداد للموسم الدراسي وتبدأ بلدية يافا ودائرة الأوقاف بتنظيف المصيف وتجهيزه للموسم القادم .
وأخيراً
قبل الانتهاء أقدم شكري كاملاً من القلب لأسرة مؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية في أبوديس التي دائما تزود الباحثين والمهتمين بالوثائق العثمانية القديمة والقيمة ولا تبخل على أحد والشكر موصول إلى كل من اسرة مكتبة بلدية البيرة العامة وأسرة مكتبة القطان في رام الله وأسرة مؤسسة عبد الحميد شومان ومكتبتها العامة في عمان وذلك لجهدهم الصادق والمخلص في إعطاء المعلومة وتيسير كل وسائل البحث للباحثين ، ومن القلب أهدي شكري إلى المؤرخ القدير الاستاذ علي حسن البواب لجهده في بحثه القيم عن موسم النبي روبين وإلى اللقاء في حلقة القادمة إن شاء الله .